سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى
سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله |
محمد بن شاكر الشريف |
و لا يقيم على ضيم يسام به *** إلا الأذلان عير الحي والوتد فكيف إذا انضاف إلى ذلك الإسلام؟! ورد الظلم وإباء الضيم مصلحة ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) لكن كان في رد الظلم والانتصار للنفس في ذلك الظرف إلى جانب تلك المصلحة مفسدة كبيرة تربو عليها ، فكانت السياسة الشرعية في ذلك الوقت منع المسلمين من الرد على المجتمع الجاهلي والأمر بالصبر واحتمال الأذى؛ فإن أحدا لا يدري في تلك الظروف مع قلة المسلمين وضعفهم و قوة المجتمع الجاهلي ماذا يمكن أن تسفر عنه المواجهات بين المسلمين وعدوهم، فقد تتمخض عن معركة كبيرة يفنى فيها المسلمون أو أكثرهم ، أو قد تتدخل القبائل دفاعا عن أبنائها ( ولو كانوا مسلمين بدافع العصبية الجاهلية ) مما يمكن أن تنشأ عنه ما يعرف بالحرب الأهلية مما لا يوفر ظروفا مساعدة على الدعوة بل تتقوقع الدعوة في هذه الحالة وتنحصرأو غير ذلك من الاحتمالات التي تخسر فيها الدعوة كل ما حققته من مكاسب، فكان احتمال الضيم على ما فيه من إيلام وقسوته على النفوس الأبية أهون شرا وأقل ضررا من محاولة دفع الظلم، لكن هذه المراعاة للمصالح والمفاسد لا تتم مع الاستكانة والشعور بالمذلة أو التعرض للإبادة الكاملة، لكنها تكون مع الاستعلاء بالدين والشعور بالعزة ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأجواء وهو يأمر أصحابه بالصبر يبشرهم بالعز والنصر والتمكين ويقسم على ذلك ففي حديث خباب بن الأرت أنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية أن يراعي الدعاة والعاملون المصالح والمفاسد المترتبة على الأعمال والتصرفات فإن العمل لا يكفي فيه أن يكون ظاهره مشروعا إذا علم أنه يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي يحققها ، وهذا يدخل في القاعدة الفقهية المعروفة بـ( سد الذرائع ) وهي أن العمل المشروع إذا كان ذريعة إلى مفسدة أكبر فإنه يمنع ، ومما ينبغي ملاحظته في هذا الباب أن المصالح والمفاسد المترتبة على بعض الأعمال لا تظل أبد الدهر هكذا ، فإن المصالح والمفاسد المترتبة على أوضاع تتغير بتغير تلك الأوضاع ، ولذلك فإن المسلمين بعدما انتشرت دعوتهم وقويت شوكتهم أذن لهم في القتال ثم أمروا به ولم يعد الرد على المشركين مفسدة ينبغي لأجلها تحمل الظلم والسكوت عن مواجهته ، ونظرا لاتساع رقعة بلاد المسلمين اليوم فإن المصالح والمفاسد المرتبطة بالأوضاع تختلف من مكان لآخر لاختلاف الأوضاع فما يكون مفسدة في مكان قد لا يكون مفسدة في مكان آخر وما يكون مصلحة في مكان قد لا يكون مصلحة قي مكان آخر ، والمصلحة والمفسدة إنما تقاس بمعيار الشرع وليس بمعيار المكسب والخسارة المادية فقط، فقد دل غلام الأخدود الملك الكافر على كيفية قتله وكان ذلك في ظاهره مفسدة لتمكين الكافر من التسلط على نفس مسلمة ولكنه كان بمقياس الشرع مصلحة راجحة لأن هذا التصرف كان سببا ووسيلة إلى إحياء نفوس كثيرة، وكذلك إذا نزل الكافر الباغي المعتدي بأرض المسلمين فإن التصدي له ومدافعته هو المصلحة وإن ترتب على ذلك مفسدة إهلاك للحرث والنسل لأن تركه وعدم مدافعته يؤدي إلى إهلاك الدين الذي هو مقدم على الحرث والنسل ثم هو بعد ذلك لن يحافظ على الحرث والنسل. |
الدعوة بالمراسلة | |||||||||||||||
عبدالرحمن الريس | |||||||||||||||
المصدر : موقع المسلم منهج الدعوة إلى الله (4/4) منهج الدعوة إلى الله (4/4) مرفت كامل أسرة ثانياً: وسائل الدعوة: وسائل الدعوة هي ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة وهي ثلاثة أنواع: وسائل تبليغ الدعوة بالقول: والقول على قسمين: المشافهة: بإلقاء الخطبة، الدرس العلمي، المحاضرة، الندوة، المناقشة والجدل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الكلمة الوعظية، الدعوة الفردية، النصيحة الأخوية، الفتوى الشرعية. الكتــــابة: بتأليف الكتاب، الكتيب، النشرة، الرسالة، المقال، المسابقة الدعوية. وفي جميع ذلك لا بد من الإعداد العلمي الجيد والتحضير للمادة المطروحة، بالقراءة والبحث وتخريج الأحاديث التي يستدل بها الحرص على اختيار الحجة منها. والإلقاء مهم جداً للداعية فهو الذي يساعده على إيصال دعوته إلى الجماهير من خلال الخطبة والدرس العلمي والمحاضرة والندوة. ويعتمد نجاح الإلقاء على عنصرين أساسيين: عنصر الإقناع: أي إقناع المستمع بالمادة العلمية المطروحة، وذلك بإسنادها بالحجج والأدلة والتوثيق العلمي للمعلومات التي يذكرها. عنصر الإثـارة: أي إثارة عواطف وأحاسيس المستمع بغية استمالته إلى المادة المطروحة. ومن الأمور الهامة التي ينبغي للداعية مراعاتها عند الإلقاء ما يلي: · الإخلاص والاستعانة بالله أولاً وأخيراً. · الثبات والثقة أمام الجمهور. · توزيع نظراته على عيون الجمهور، والانتقال ببصره بينهم من جهة إلى أخرى. · من المستحسن له أن يشدد على الكلمات المهمة ويخفض غيرها، وأن يغير طبقات الصوت ويغير معدل سرعته في الكلام، كأن يقول عدة كلمات بسرعة وعندما يصل إلى الكلمة أو الجملة التي يرغب في التشديد عليها يرفع صوته ببطء، كل ذلك لتشويق وإثارة الجمهور. · عليه أن يتفاعل مع موضوعه، وأن يركز أثناء الإلقاء ولا ينشغل بغيره كأن يعبث بأزرار ملابسه مثلاً؛ فإن احترامه للجمهور يكسبه احترامهم وإنصاتهم. · من المناسب له أن يكرر بعض الكلمات للتأكيد عليها ولتفهيم السامعين وترسيخ المعاني في أذهانهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أحياناً كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم ثلاثاً وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً. ومنه حديثه صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد". · لا مانع من استخدم بعض وسائل الإيضاح، حسب الحاجة بدون تكلف، فقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم الإشارات اللطيفة ورسم الخطوط وغرز العود في الأرض. · التنويع في اختيار الموضوعات المطروحة حسب أهميتها بالنسبة للجمهور. وبالنسبة للمحاضرة فإن من الأفضل أن يستهل الداعية محاضرته بخطبة الحاجة اقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يستهل محاضرته بمقدمة قصيرة يهيئ فيها المستمع ذهنياً لموضوع المحاضرة، بعدئذ يدخل في صلب موضوعه مستشهداً عليه بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، موثقاً كلامه بأقوال أهل العلم، مع ملاحظة التنظيم والدقة والتسلسل في عرض الأفكار، ومراعاة جانب الحضور، بحيث لا يلقي موضوعه بإسهاب ممل ولا اقتضاب مخل، مع التروي في الإلقاء، وعليه أن يختار ما سهل من الألفاظ والعبارات مبتعداً عن التكلف وغريب الكلمات ما استطاع. وفي ختام المحاضرة يستحسن أن يذكر الداعية أهم العناصر التي تناولها لتكون آخر ما يعلق في أذهان الجمهور، ويعقب ذلك حمدالله والثناء عليه بما هو أهله سبحانه وتعالى، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، ثم يسلم على الجمهور، ومن ثم يستعد للإجابة على الأسئلة التي تدور حول موضوع المحاضرة. وسائل التبليغ بالعمل: والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..." الحديث. والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف، كبناء المساجد والمشاريع الخيرية ودور تحفيظ القرآن الكريم والمدارس الإسلامية وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات، وهذا كله في الحقيقة دعوة صامتة. التبليغ بالسيرة الحسنة: وأخيراً من الوسائل المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعية، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الكريمة، والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً، مما يجعله قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من لتأثير بالكلام وحده. وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: أولاً: حسن الخلق، وهذا باب واسع جداً لا يتسع المقام لطرقه. ثانياً: موافقة العمل للقول. ويكفي رادعاً في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتية وأنها كم عن المنكر وآتية". (للاستزادة/ السلوك وأثره في الدعوة إلى الله. د. فضل إلهي). وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار" قال: قلت: "من هؤلاء" ؟ قالوا: "خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون". (صحيح الترغيب والترهيب). وقال الحسن البصري رحمه الله: إذا كنت آمر بالمعروف فكم من أخذ الناس به وإلا هلكت، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكم من أنكر الناس له وإلا هلكت. وقال ابن النحاس الدمشقي رحمه الله: فالعالم إذا خالف علمه عمله وكذب فعله قوله كان ممقوتاً في الأرض والسماء، مضلة لمن رام به الاقتداء. وإذ أمر بغير ما يعمل مجت الأسماع كلامه، وقلت في الأعين مهابته وزالت من القلوب مكانته، كما قال مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه تزل موعظته عن القلوب كما يزل القطر من الصفا". من هنا نجد أن السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من أشد الناس حرصاً على تحقيق القدوة الحسنة في حياتهم بل وذويهم، روى ابن أبي شيبة عن سالم قال كان عمر رضي الله عنه إذا أنهى الناس عن شيء جمع أهل بيته فقال: "إني نهيت الناس كذا وكذا وإن الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيم الله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين". هكذا تحيا قلوب أهل الإيمان والتقوى والعلم والدعوة. خلاصة ما سبق.. إنه يجب على الداعية إلى الله أن يسلك منهج النبوة في دعوته، وذلك من خلال تطبيق قول الله عز وجل { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وذلك من خلال مجالات البصيرة الثلاث: البصيرة فيما يدعو، البصيرة في حال المدعو، البصيرة في كيفية الدعوة. ختاماً أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص والمتابعة في العلم والعمل والدعوة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين. |
بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل (حفظه الله)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يعد خافيًا على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة، تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء لشريعة الله سبحانه، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يستغرب من قبل العالمين بسنن الله عز وجل في التغيير، حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله عز وجل، وعدم الاستسلام لشرعه. ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله عز وجل يقول: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11 ) ويقول سبحانه : (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم )) (محمد: 7) .
أما الذين يجهلون سنن الله عز وجل أو يغفلون عنها، وينسونها، فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون أنى هذا؟ وكيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق؟ فيجيبهم الله عز وجل بما أجـاب به من سأل من أصحاب محمد e مثل هذا السؤال، فقال سبحانه وتعالى: (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) (آل عمران: 165) .
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها، يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة، التي يمر بها المسلمون ما بين يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح عليه السلام لإنقاذ الأمة والتمكين لها في الأرض، أو مستعجلاً قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية وأصول التمكين، وأسباب النصر، فنجم عن ذلك من المفاسد ما الله به عليم، وآخر رأى مهادنة الأعداء والرضى منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات، لم تثمر إلاَّ مزيدًا من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله عز وجل في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله تعالى، فقد هداهم ربهم سبحانه لما اختلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول e وصحبه الكرام عليهم رضوان الله تعالى.
وباستقراء المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير يظهر لنا أنه قائم على الأصول التالية:
الأصل الأول: البصيرة في الدين وصحة الفهم والعمل.
قال الله عز وجل: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ))(يوسف: 108).
ويعنى بهذا الأصل : أن تقوم الدعوة وينطلق التغيير من فهمٍ صحيح، وعقيدة صافية، وبصيرة واضحة في الدين، كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله e، وفهم الصحابة- رضي الله عنهم-، لأنَّ أي دعوة تعارض هذا الفهم أو تزيد عليه أو تنقص، فإنها قد فرطت في هذا الأصل العظيم من أصول التمكين والنصر.
ويلحق بالفهم الصحيح ما يجب أن يكون عليه أصحاب الدعوة من عمل صحيح، موافق لما كان عليه الرسول e، وذلك في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم.
وهذا هو ما أراده الرسول e عندما وصف الفرقة الناجية المنصورة بقوله e : (( ما أنا عليه وأصحابي )) [رواه التـرمـذي : كتاب الإيمان بـاب ( 18 ) مـا جاء في افتراق هذه الأمة 5 / 26 ( رقم : 2641 ) .
وإنَّ الجهد في إخضاع أفراد الدعوة وعامة الناس للفهم الصحيح والعمل الموافق يحتاج إلى صبر وعناء، وتضافر في الجهود، واتخاذ الأسباب المباحة المتاحة في تبليغ هذا الفهم الصحيح للأمة، ببرامج علمية وعملية، حتى تستقيم الأفهام في العقيدة والأحـكام والتصورات على هذا المنهج النبوي الكريم، ومما يلحق بالفهم فهم الواقع الذي يتحرك فيه الدعاة، وطبيعته والبصيرة بأحوال الناس، واستبانة سبيل المجرمين، والوعي بكيدهم ومخططاتهم وإمكاناتهم.
الأصل الثاني: حسن القصد:
ويعنى بهذا الأصل إخلاص المقاصد لله عز وجل، وصدق النية في الدعوة والتغيير، بأن يكون القصد من ذلك التعبد لله عز وجل وابتغاء وجهه ورضاه وجنته، وإنقاذ الناس بإذن ربهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
وهذا بدوره ينفي كل مقصد دنيوي سواءً كان رياءً أو إرادة جاهٍ أو مالٍ أو منصبٍ أو شهرة.. إلخ، لأنَّ وجود مثل هذه المقاصد في الدعوة يفسدها ولا يكون القصد فيها حسنًا، وبالتالي لا يبارك الله فيها ولا ينصر أهلها، ولا يمكِّن لهم في الأرض ولو كانوا على فهمٍ صحيح؛ لأنَّهم فرطوا في أصلٍ عظيم من أصول التمكين، ألا وهـو إرادة الله عز وجل والآخرة ليس إلا. ولا شك أنَّ تحقيق هذا الأصل العظيم في نفوس الدعاة يحتاج إلى جهدٍ ومجاهدة، ومناصحة وتربية علمية وعملية، يعتني فيها بالقلوب وأعمالها، وتُقوَّى فيها الصلة بالله عز وجل والتحلي بالأخلاق المحمودة الباطنة والظاهرة، والتي على رأسها الإخلاص لله عز وجل.
الأصل الثالث : وحدة الصف:
وهذا الأصل ثمرة للأصل السابق، حيثُ إنَّ تجرد المقاصد لله عز وجل ينفي الهوى وحظوظ النفس، والتي هي من أكبر أسباب الفرقة والبغضاء، لأنَّه لا يمكن لأصحاب الفهم الصحيح الواحد أن يتفرقوا إلاَّ إذا كان القصد غير حسن. وأصحاب القصد الحسن لا يفارقون غيرهم، إلاَّ إذا كانوا على فهمٍ منحرفٍ غير صحيح كأصحاب الفرق وأهل البدع.
وكون الاجتماع ووحدة الصف أصلٌ من أصول التمكين، لا يجادل في هذا أحد، كيف والله عز وجل يقول : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) (الأنفال: 46).
ولا شك أنَّ نبذ الفرقة، واجتماع القلوب، ووحدة الصف بين أهل السنة، أصحاب الفهم الصحيح يحتاج إلى القد وات وإلى الصبر والجهد الجهيد، والتجرد لله عز وجل، وترك حظوظ النفوس.
وتقع المسئولية في ذلك على العلماء والموجهين والمربين كل في مجاله، ويكون ذلك بالتواصي والمناصحة، وإظهار الود وحقوق الأخوة بين الدعاة، وإن لم يجد بعضنا مجالاً لهُ في جمع الكلمة، فليتق الله ولا يفرق، فإنها صدقة منه على نفسه وكف شر عن إخوانه، وهو بذلك يسـاهم في جمع الكلمة وتوحيـد الصـف، وإن مما يحفز الهمم على تحقيق هذا الأصل العظيم، اليقين بأنَّ نصر الله عز وجل لا ينزل على أمةٍ متفرقةٍ متباغضة.
وقد يجد أصحاب الدعوة الحريصون على جمع الكلمة أنفسهم أمام أناسٍ غير حريصين على وحدة الصف، فحينئذ حسبهم أن يعلم الله عز وجل صدقهم وإخلاصهم، فيوفقهم ويعينهم وينصرهم.
الأصل الرابع: التمحيص والتميز:
قـال الله عــز وجــل: (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) . (آل عمران:141).
وقال سبحانه : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )) (آل عمران: 179) .
وإنَّ المتأمل في منهج الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وبخاصة في سيرة الرسول e وأتباعه المؤمنين، ليرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنهم لم يمكنوا إلاَّ بعد أن ابتلوا ومحصوا.
والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان :
أـ ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه :
وذلك عندما يحصلُ الخلل في واحـدٍ من الأصـول الثلاثة السابقة أو أكثر. فعندما يحصل الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإنَّ الله عز وجل قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله عز وجل عنهم بهذه العقوبات سيئاتهم.
ب ـ ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف :
وهذا النوع من الابتلاء هو الذي نقصده في هذا الأصل، وهو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن والصف الموحد، والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسين في الصفوف ولم يعرف شأنهم، فيقدر الله عز وجل مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله عز وجل به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم، قال الله عز وجل عن المؤمنين في غزوة الأحزاب عندما رأوا الشدائد والأهوال : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )) (الأحزاب:22).
وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء : (( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)) (الأحزاب:12).
فما زادت الشدائد المؤمنين إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلاَّ مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب والذي ما كان ليعرف في حال السلم والأمان.
وإنَّ فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومن علم الله عز وجل صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ سبحانه يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده. وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله تعالى ويقوم عز الإسلام.
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ تتعلقُ بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحابِ الدعوات الذين يريدون التمكين لدين الله تعالى عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.
وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم، حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح وأهدافهم العالية، ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة حتى يحصل التميز القيام فضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالبـاطل، ومالم يتم هذا البيان فإنَّ الناس المضللون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحماته.
فمالم يحصل البلاغ الكافي، والذي يتميز فيه الحق من الباطل، ويزول التلبيس والتضليل، فإنَّ هذا الأصل أعني أصل التميز لم يتحقق بعد، وعلى الدعاة الصبر والتأني، وبذل الأسباب في تحقيقه قدر الاستطاعة، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وحتى يعطي الواحد من الناس ولاءه لمن يختاره من أهل الحق أو الباطل عن علم وبينة وطواعية.http://www.majdah.com/vb/showthread.php?t=22146